التوكل على الله هو خاصية الإيمان وعلامتهقول الله تعالى في كتابه الكريم: {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}.. الآية 23 من سورة المائدة.
تشير هذه الآية و الآيات التي قبلها من أول قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ}.. الآية 20 من سورة المائدة، و إلى قوله تعالى: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}.. الآية 26 من سورة المائدة.
تشير هذه الآيات إلى موقف بني إسرائيل من ربهم و من نبيهم موسى عليه السلام الذي بعث لإنقاذهم من الذل و كيف كان كفرهم بنعم الله عليهم: (وكيف نقضوا ميثاق ربهم وكيف كان عقاب الله لهم رغم ما كان بينهم من أناس صالحين).
و نحن نستعرض الآيات نجد موسى يسوق التذكير لهم بنعم الله عليهم لأنه خبير بهم (وقد سبر غورهم و جرب مواقفهم في رحلته الطويلة معهم) منذ أن خرجوا من مصر وحررهم من الذل والهوان باسم الله و قد شق الله لهم البحر و أغرق لهم فرعون و جنده و لم تكد هذه النعم تغيب عن أعينهم فإذا هم يمرون علة قوم يعكفون على أصنام لهم فيقولون : (يا موسى أجعل لنا إلها كما لهم آلهة) (لم يكد يغيب عنهم في ميقاته مع ربه حتى يتخذ السامري لهم من الحلي الذي سرقوه من نساء مصر عجلا جسدا من ذهب له خوار فإذا هم يكفون عليه قائلين: هذا إلهكم وإله موسى الذي ذهب لميقاته).
وهو قد جربهم أيضا حين فجر لهم من الصخر ينابيع في جوف الصحراء، و أنزل عليهم المن و السلوى طعاما سائغا، فإذا بهم يشتهون ما اعتادوا من طعام مصر.. الأرض التي استذلوا فيها بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها، ولا يصبرون عما ألفوا من طعام وحياة في سبيل العزة والخلاص و الهدف الأسمى الذي يسوقهم إليه موسى، (ولقد أختبرهم في قصة البقرة التي أمروا بذبحها فتلكئوا في تنفيذ الطاعة فذبحوها و ما كادوا يفعلون).
وقد بلاهم أيضا حين عاد من ميقات ربه ومعه الألواح و فيها ميثاق الله و عهده عليهم، فأبوا أن يعطوا الميثاق وأن يمضوا العهد مع ربهم بعد كل هذه النعم وتلك الخطايا ولم يعطوا الميثاق حتى وجدوا الجبل مرفوعا فوقهم وظنوا أنه واقع بهم، ثم هو معهم على أبواب الأرض المقدسة، أرض الميعاد التي من أجلها خرجوا والتي وعدهم الله أن يكونوا فيها ملوكا وأن يبعث منهم أنبياء لكي يظلوا في رعاية الله و قيادته و الآن هو يدعوهم (فيحشد في دعوته ألمع الذكريات وأكبر البشريان وأضخم المشجعات وأشد التحذيرات).
يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين، يا قوم أدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين وهذه الأرض التي يدعون لدخولها مكتوبة بوعد الله فهي إذن يقين و قد رأوا من قبل كيف صدقهم الله وعده و لكن الإسرائيليين هم الإسرائيليين طبعهم هو الجبن و التمحل و النكوص على الأعقاب ونقص الميثاق وخاصة أمام الخطر الماثل لهم وهو القتال.
فقالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإن لن ندخلها حتى يحرجوا منها فإن يخرجوا منها فإن داخلون (فهم يريدون نصرا رخيصا لا ثمن له و لا جهاد فيه. نصرا مريحا ينزل عليهم كطعام المن والسلوى). و لكن هنا تبرز قيمة الإيمان بالله و الخوف منه وحده {قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون و على الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين}.
إن خوف هذين الرجلين من الله وحده ينشئ لهما استهانة بالجبارين ويرزقهما شجاعة في وجه الخطر الموهوم ، وتلك هي قيمة الإيمان وقيمة الخوف من الله في مواجهة الخوف من الناس وساعة الشدائد فإن من يخاف الله تعالى لا يخاف أحدا بعده ولا يرهب شيئا سواه، ذلك لأن المؤمن يتوكل على الله وحده وهذه هي خاصية الإيمان و علامته. وهذا هو منطق الإيمان ومقتضاه.
(ولكن لمن يقال هذا الكلام؟ لقد أنصفت إذ ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي) فما كان جواب بني إسرائيل إذ قيل لهم إلا أن قالوا يا موسى إن لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون (هكذا في وقاحة الجبناء) فاذهب أنت و ربك فلس بربهم إذا كانت عبادته ستكلفهم القتال (إنا ها هنا قاعدون) فنحن لا نريد ملكا و لا نريد عزا و لا نريد أرض ميعاد تلك هي نهاية المطاف مع موسى عليه السلام وآخر رحلة السفر الطويل نكوص عن القتال وعن دخول الأرض الموعودة وهم على أبوابها و انصرفا عن ميثاق الله).
فماذا يصنع موسى عليه السلام؟ (قال ربي إني لا أملك إلا نفسي و أخي ففرق بيننا و بين القوم الفاسقين.. إنها دعوة فيها ألم وحسرة وفيها التجاء لله و استسلام وقهر في ضعف الإنسان المخذول وفي إيمان النبي الحكيم وفي عزم المؤمن المستقيم لا يجد متوجها إلا الله يشكو إليه بثه ونجواه ويطلب إليه الفرقة الفاصلة بينه وبين القوم الفاسقون فما يربطه بهم نسب و لا ميثاق و لا تاريخ (وجهد سابق إنما يربطه بهم الدعوة إلى الله و هذا الميثاق مع الله وقد فصلوه فانقطع ما بينه و بينهم).
واستجاب الله لنبيه و قضى بالجزاء العادل على الفاسقين (قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين) وهكذا أسلمهم الله للتيه وحرم عليهم الأرض التي كتبها لهم وحرم منها هذا الجبل حتى تنبت نابته جديدة وينشا جيل غير هذا الجيل الذي جبل على الذل والاستعباد فلم يعد يصلح لهذا الأمر الجلل وهذه القصة تحمل من الدروس ما ينفع هذه الأمة ويؤكد طبيعة بني إسرائيل و لجداتهم و نكوصهم و ما يؤكد أن الإيمان و التوكل على الله عاصمان من ارتكاب الدنايا و أن المؤمن لا يخشى إلا الله وحده (و أن العبد يحرم الرزق بالذنب و أن الله حرمهم و عده بعد تنصلهم منه).
وأن هذه الأمة قد وعت ما قصه الله عليها من أنباء الأمم السابقة فحين واجه المسلمون الأولون الشدة وهم قلة في بدر قالوا لرسول الله صلى الله عليه و سلم (لا نقول لك يا ر سول الله ما قاله بنوا إسرائيل لموسى : أذهب أنت و ربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون) لكن نقول لك: (أذهب أنت و ربك فقاتلا فإننا معكما مقاتلون).
والآن حين ضعفت الأمة وخافت من جبابرة بني إسرائيل لضعف إيمانها بربها وعدم توكلها عليه تبدل الحال فدخل بنو إسرائيل الأرض المقدسة وأخرجوا منها أصحابها لا لقلة في العدل بل لوهن أصحاب القلوب التي خافت غير الله ولم تتوكل عليه وصدق الله بقوله {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} و الله الهادي سواء السبيل .
منقول